كان القاضي "عبيد الله بن الحسن العنبري" من كبار الحفاظ للسنة النبوية، وكان له رأي في مسألة من المسائل بناه على حسب فهمه واجتهاده، فجاءه بعضُ تلاميذه ببعض الأدلة التي تبيّن خطأ رأيه، وصواب رأي الذين خالفوه.
فأطرق الرجل ساعة ثم رفع رأسه، وأطلق عبارة ينبغي أن تُكتب بحروف النور، قال: "إذن أرجِع وأنا صاغِرٌ، إذن أرجِع وأنا صاغرٌ، لأَنْ أكونَ ذَنَبًا (أي ذيلاً) في الحقّ أحبُّ إِلَيَّ من أن أكونَ رأسًا في الباطل ويتبعني الناس".
هذه العبارة لخصت سلوكًا حضاريًّا وأدبًا في غاية الأهمية يجب أن يتأدب به العقلاء، وأن يحافظوا عليه، وهو ألا يتكبر الإنسان على الحق، وألا يعتقد أن ما رآه يكون دائمًا هو الصواب، إنما يقبل النقاش، وينشد الحق، ويكون لديه الاستعداد النفسي للتسليم بالخطأ وقبول الحق متى ظهر له، بل يفرح بظهور الصواب، ويشكر لمن أرشده إليه.
وهذا يحتاج إلى تجرد لله وصدق وإخلاص، وقوة نفس وشجاعة؛ فالكبر والإعجاب بالرأي أشد ما يمنع النفس من الاعتراف بالخطأ، وفي الحديث الذي أخرجه الطبراني وغيره: «ثَلاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ».
وقال عمر رضي الله عنه: "إن أخوف ما أتخوف عليكم شحٌّ مطاعٌ، وهوى متبَعٌ، وإعجابُ المرء برأيه، وهي أشدهن". وقال في رسالته لأبي موسى الأشعري: "لا يَمْنَعَنَّك قَضَاءٌ قَضَيْته بِالأَمْسِ، ثُمَّ رَاجَعْت نَفْسَك فِيهِ الْيَوْمَ، فَهُدِيت لِرُشْدِك - أَنْ تُرَاجِعَ فِيهِ الْحَقَّ؛ فَإِنَّ الرُّجُوعَ إلى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ".
وقال يومًا: "أيها الناس، ما هذه الصداقات (يعني المهور) التي أحدثتم؟ لا يبلغني أن أحدًا تجاوز صداق النبي صلى الله عليه وسلم إلا استرجعتُه منه؟ فقامت إليه امرأة فقالت: ما جعل الله ذلك إليك يا ابن الخطاب، إن الله تعالى يقول: {وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]، فقال عمر: "أما تعجبون من إمام أخطأ وامرأة أصابت، ناضلت أميركم فنضلته؟".
وروجع الشعبي في مسألة، فعرف خطأه، فقال: "لا أستحيي إذا رأيت الحق أن أرجع إليه". وهذا عين ما فعله نعيم بن حماد حين أوقفه يحيى بن معين على خطئه فقال: "نعم يا أبا زكريا غلطتُ". وقد كان هذا سلوكَ الأمة في أوْج تقدمها وازدهارها، حين نافست في ميدان الحضارة، فسبقت كل حضارات الزمان.
وعلى عكس هذا المستوى الحضاري الراقي كان بعضهم يمضي على خطئه؛ أنفًا من الرجوع، ويقول: "نقضٌ وإبرامٌ في ساعة واحدة؟ الخطأ أهون من هذا". أو يصر على المضي في الخطأ تعصبًا لقومه أو حزبه ويعيد مقولة أحد رجال مسيلمة الكذاب له: "أشهد أنك الكاذب، وأن محمدًا صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر".
وكان أمية بن أبي الصلت الثقفي أحد شعراء الجاهلية المشاهير، وأحد شعراء العرب المعدودين، وكان قد جالس الأحبار والرهبان والعلماء، وكان أحيانًا يتحدث في شعره أنه ينتظر نبيًّا يبعث، إلى أن أرسل الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، فكفر واستكبر عن الحق.
ويحكي أبو سفيان -فيما أخرجه الطبراني- أنه قال له: يَا أُمَيَّةُ، قَدْ خَرَجَ النَّبِيُّ الَّذِي كُنْتَ تَنْتَظِرُ. قَالَ: "أَمَا إِنَّهُ حَقٌّ فَاتَّبِعْهُ". قال: مَا يَمْنَعُكَ مِنَ اتِّبَاعِهِ؟ قَالَ: "مَا يَمْنَعُنِي مِنَ اتِّبَاعِهِ إِلا الاسْتِحْيَاءُ مِنْ نَسَيَاتِ (يعني نساء) ثَقِيفٍ، إِنِّي كُنْتُ أُحَدِّثُهُنَّ أَنِّي هُوَ، ثُمَّ يُرِيَنَّنِي تَابِعًا لِغُلامٍ مِنْ بني عَبْدِ مَنَافٍ".
انظر إلى الذين رجعوا إلى الحق وهم صاغرون، وإلى الذي أعلن أنه يفضل أن يكون ذيلاً في الحق عن أن يكون رأسًا في الباطل، ثم انظر إلى أولئك السفهاء الذين عموا وصموا عن الحق بعد ظهوره! ثم ارجع البصر كرتين لتدرك أن سلوك الأولين كان في وقت ازدهار الحضارة والعلم، فيما عاش الآخرون في إبان انتشار البداوة والجهل، فالأولون يرجعون إلى الحق، والآخرون يتمادون في الباطل.
وقد وصف الله تبارك وتعالى لنا فئةً من أهل الكتاب عرفتْ الحقَّ وبانت لها دلائلُه، وكانوا قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ويستفتحون على الذين كفروا، ويقولون لهم: إن نبيًّا قرب زمانه وسوف نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم، {فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة: 89، 90].
ومن أسوأ ما حفظ التاريخ من ذلك: ما فعله حيي بن أخطب زعيم يهود بني النضير، فقد حكت بنته السيدة صفية رضي الله عنها -فيما أخرجه ابْنُ إسْحَاقَ- قصة ذهابه مع أخيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتحققه من نبوته، قَالَتْ: وَسَمِعْت عَمّي أَبَا يَاسِرٍ وَهُوَ يَقُولُ لأَبِي حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ: أَهُوَ هُوَ؟ (يسأله: هل هذا هو رسول الله الذي جاء وصفه في التوراة؟) قَالَ: نَعَمْ وَاَللّهِ. قَالَ: أَتَعْرِفُهُ وَتُثْبِتُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا فِي نَفْسِك مِنْهُ؟ قَالَ: عَدَاوَتُهُ وَاَللّهِ مَا بَقِيتُ.
فهذا كبر على الحق، وإصرار على التمادي في الباطل، بل إعلان ذميم بعداوة الحق والداعي إليه مع وضوحه وظهوره، وهو خلق ذميم يهدم ويدمر، ولا يبني أو يعمر، وعاقبته خسران، لا على الشخص فحسب، بل على الأمة بأسرها، وخصوصًا إذا صدر عن أشخاص مؤثرين من أصحاب الرأي أو قادة الفكر أو زعماء الأحزاب أو ما اصطلح على تسميتهم بالنُّخبة، وقد أمرنا الله تبارك وتعالى أن نكون أسلس انقيادًا للحق في تناول أي مسألة، مادية أو علمية أو شرعية أو اجتماعية..
فإذا ظهر لك أن ما تعتقده أو ما تؤمن به أو ما تفعله أو ما تمارسه خطأ، فلا تستكبر عن الرجوع؛ فلأنْ تكون واحدًا من عامّة الناس الذين يسيرون في الحق، أفضل من أن تنفرد باتخاذ المواقف الخاطئة كبرًا أو غرورًا، أو كي يقال: فلان صاحب كلمة، أو صاحب رأي، أو كي تكون محط أنظار المجتمع، أو موضع اهتمام الصحافة والإعلام.
كما هو -للأسف- حال بعض من يتصدرون للعمل العام، وكل ما يهمهم أن تذكر أسماؤهم في نشرات الأخبار أو على صفحات التواصل الاجتماعي أو في مقالات الكتاب والمدونين، دون اعتبار لمدى صحة المواقف التي يتخذونها أو الآراء التي يعلنونها، ويمنعهم الإعجاب بآرائهم والاغترار بأنفسهم من الرجوع إلى الحق والصواب.
إن النرجسي الذي يفعل هذا ويرفض الاستسلام للحق يكون عبدَ نفسه وهواه، وأسوأ ما يكون ذلك حين يرى نفسه فوق الخطأ ويرفض مجرد المراجعة، وغالبًا ما يكون ذلك من قلة علمه وفساد دخيلته، وإن الحرية الحقيقية التي يبني أصحابها حضارة ويحققون نهضة لا تتحقق إلا بأن يكون المرء عبدًا للحق يدور معه حيث دار، ويرجع إليه متى ظهر له؛ ولذلك قالت الحكماء: "من كان عبد الحق فهو حر".