كانت الدماء المتدفقة من الشهداء - الذين خرجوا يدافعون عن الحق والعدل و يطالبون برفض الفساد والجور - برائحتها الزكية ولونها الأحمر القاني.
تصاحب في تقطرها قطرات الدمع من أعين الأمهات الثكالى اللاتي أقسمن هن الأخريات أن يكتبن في صفحات التاريخ أسماءهن بكل فخار.
لحظات قليلات ارتفعت فيها أرواح أبنائهن إلى باريها , وارتفعت معها أكف الضراعة من هؤلاء الأمهات المظلومات يدعون على من ظلمهن وحرمهن من فرحتهن واغتال فلذات أكبادهن في لحظة ظلماء لا لشيء إلا أنهم يصيحون يريدون الحق!
في تلك اللحظات أيضا يعد الظالمون عسكرهم ويرتبون مجنزراتهم ويحشدون طائراتهم ودباباتهم ويعتزمون اغتيال حلم الصغار وبسمة البرءاء وسعادة الأمل في قلب الأمهات الطيبات.
نوعان من الدوافع مختلفان , نوع يدفع الظالمين نحو إسالة الدماء , ونوع يدفع المخلصين إلى الخروج بأياد بيضاء برغم سيلان تلك الدماء.
موقفان متضادان , وطريقان متعاكسان , ومصيران يرتجى أن يكونا مفترقين , إنه موقف الجاني المسلح وموقف الضحية الطيبة بيديها العزلاء.
الأمهات لن يبرحن الأرض حتى يواري أبناءهن الثرى الطيب , ويجف في الميدان دماؤهم , وينكسر طغيان الطاغين , دعاؤهن من قلب دافق بصرخات جريحة مبحوحة , وأجسادهن النحيلة الضعيفة لا تقوى على الوقوف في العراء.
لكنهن يرفعن أيديهن بالدعاء والرجاء واثقات في موعود الله العظيم الرحيم: اللهم لقد رفعنا اكفنا إليك وأطلنا ارتفاعها وسجدنا برؤوسنا أمامك فأطلنا سجوها , اللهم رجوناك وتضرعنا إليك فلا تردنا خائبات.
وكأن حروف الدعاء قد أنبتت نبت الصمود في الشوارع والميادين , و احتشدت الجموع وصنعت لها بيوتا من الأمل , وجعلت لها مسجدا من الصدق والإخلاص فظلوا عاكفين لن يبرحوا الأرض حتى يتحقق لهم احدي الحسنيين الشهادة أو النصر.
انه الإصرار والثبات وقوة الإيمان والعزيمة والثقة في نصر الله سبحانه مفتاح النجاة.
إنها للحظات صادقة وثورة بلا قيادة , ولكنها انطلقت من بركان الظلم الباغي الذي سحق عظام الساجدين في القبايا تحت الأراضي , وسحق الآمال في الزنازين .
خطوة خطوة , ارتفع النبت في السماء , والتحق الجميع بالجميع فقد فجرت الحروف الصادقات ينابيع القوة في عروق العملاق , فجرت في النفوس حنينها إلى الحرية والعدالة.
ثم ها هو النبت ينتشر وسقياه لا تنقطع , وهي ذاتها الأكف البيضاء , والصدور العارية والشعب الأعزل , يريد ان يسترد حريته وحقه , يريد أن يتمسك بعقيدته ودينه بلا قيد أو سجن أو عذاب , أنها سنه الله تأبى ذلك الظلم وتعلن أن البقاء للحق دوما.
لقد سبق و دمر الله سبحانه وتعالى فرعون وجنوده غرقا فلم ينج منهم احد , وهي أيضا سنة كونية لكل من تشبث بالظالمين حتى النهاية " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار "
والناس في ذاك المرجل ثلاثة أصناف , صنف بدأ بالدعاء والرجاء ورفع يديه البيضاء وصدح بصوته يريد الحق , وآخر استمع له فنصره , وثالث أبى أن يكون من حزب الظالم فالتحق بالسفينة قبل أن يغرق بالطوفان.
إن قوم عاد وثمود الذين طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد لم يجدوا من نهايتهم إلا أن صب عليهم ربهم العذاب.
لقد بشرنا الله سبحانه وتعالى بإزاحة ظالم في تونس , ثم تلاه آخر في مصر , وهاهي علامات الفجر في ليبيا تبزغ من بعيد تخترق ضبابا كثيفا من صرخات الشعب النازف دماءه على يد مهووس بلون الدماء , إنه لم يدرك حتى الآن أنه قد انتهى عصر الذل والظلم وخرجت القلوب من سجنها فالكل عبر على ما بداخله بكل خلق رفيع.
وبرغم الألم فلم تكن الثورة إلا سلمية لم يستخدم المظلومون السلاح لأخذ حقوقهم ولكن قوتهم الأساسية كانت بقيمة إيمانهم التي تستطيع أن تحقق حريتهم دون استخدام العنف.
إنها ايام سيسجلها التاريخ وسوف يقرأها أولادنا والأجيال القادمة من بين وسيقرؤون بين السطور انه لابد للثبات إذا تعانق مع الصبر أن ينتصر ولابد للقاء بعد الفراق ولابد لليسر بعد العسر ولابد للفرج بعد الضيق.