الحمد لله الذي أمرنا بفعل الطاعات وترك السيئات، وحث على اغتنام الأوقات والمواسم الفاضلات، بالاستباق إلى الخيرات، والمنافسة في الصالحات، وأصلى وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وزوجاته الطاهرات، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم تبعث البريات،
ما أن يدخل شهر رمضان المبارك، ويهل هلاله على المسلمين، إلا ويحس المسلم وكأنه في دورة إيمانية يلين بها قلبه، ويطمئن بها فؤاده، ويتقرب فيها من ربه سبحانه وتعالى، وينعم فيها بالتقلب في الصالحات، وكأنه ينتقل من روضة إلى روضة، وكيف وهو في شهر التنافس في الخير، والتسابق في ميدان العمل الصالح؟
مع هذا التنافس نعيش سوياً تبياناً له، وتوضيحاً وتشجيعاً في الوقفات الآتية: ·
الوقفة الأولى:
خلق الله الإنسان ومنحه إمكانات عظيمة، يقوم عليها معاشه وحياته، وفضلّه بها على المخلوقات، منحه سبحانه العقل الذي يفكر به، ويميز به بين الخير والشر، والنافع والضار، ومنحه الحواس التي يحس بها بما حوله، ومنحه الشعور والإحساس الذي تتحرك به عوطفه، كل ذلك لتكتمل شخصيته، وتتوازن مقومات حياته. وهذا كله بلا شك من نعم الله سبحانه على الإنسان، ولذا امتد الناس في معاشهم في هذه الحياة، وصاروا يتنافسون باستغلال هذه الإمكانات، وصارت الحياة ميداناً لهذا التسابق بمختلف أنواع المنافسات، فكلما قلبت طرفك في مشارق الأرض ومغاربها تجد أحوال الناس كذلك. فهناك فئات من الناس همهم المال، ركزوا جهودهم في جمعه وتصريفه، وفئات أخرى همهم ما يجدُّ ويخترع في دنيا الناس، فما استحدث من آله إلا والتفكير أسبق إلى ما بعدها، أيها أكثر تسهيلاً وأقل جمعاً؟
وفئات أخرى وجهوا همهم وإمكاناتهم إلى إرضاء رغباتهم، وإشباع شهواتهم، كل بحسب ما يرغب ويهوى، مستغلاً ما استطاع من نعم الله سبحانه وتعالى، ومن الناس من استغل إمكاناته الجسمية والبدنية، فوجهها إلى ميادين مناسبة لهذه الإمكانات، حتى على مستوى الأُمم بأكملها. هذه الميادين وغيرها التي يتبارى فيها الناس: ما مكانها وقيمتها في شرع الله سبحانه وتعالى؟ أيعارضها؟ أم يوافقها؟ أم يوجهها ويرشدها نحو نفع البلاد والعباد؟ هذا ما نتناوله في بقية الوقفات: ·
الوقفة الثانية:
لا شك أن ديننا دين الخير والصلاح، ودين السعادة والرخاء، دين يقر كل ما فيه صلاح الفرد والمجتمع، أقرّ مبدأ المنافسة، وشجع على استغلال إمكانات الإنسان، ووجه إلى ما يستحق بذل الجهد فيه، وخط خطوطاً عريضة، وقواعد كلية، وأهدافاً تقصد لتحقيقها، وجعل في مقدمة ما يسعى إليه الإنسان وينافس فيه: ما يسعد الإنسان في آخرته، يقول سبحانه: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77]، فالهدف من السعي هو الدار الآخرة. ·
الوقفة الثالثة:
على هذا الأساس المتين والقاعدة العامة، وجّه المولى سبحانه وتعالى إلى المنافسة والتباري، يقول جل من قائل: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}[البقرة:148]، ويقول جل شأنه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران:133]، ويقول جل ذكره: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21]. أما ميدان التسابق فهو العمل الصالح، يقول سبحانه: {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} [الإسراء:9]، ويقول جل شأنه: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62].
وفي الحث على هذا التنافس الشريف، يوصي الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله -فيما رواه مسلم رحمه الله-: "بادروا بالأعمال الصالحة؛ فستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسى كافراً، ويمسى مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا"[1]، وروى الترمذي بإسناد حسنه بعض أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنىً مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمرّ؟"[2]. ·
الوقفة الرابعة:
هذه الميادين الواسعة للتسابق هي ميادين المؤمنين الصادقين، الذين قال الله عنهم: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المؤمنون:57]، {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:58]، {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:59]، {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]، {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:61].
وقد تمثل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا التسابق الشريف والمنافسة العظيمة على المستوى الفردي، وعلى المستوى الجماعي، وهاك مثالاً للتنافس الفردي لأصحاب الهمم العالية، والقلوب المؤمنة الصادقة: روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم اليوم صائماً؟" قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة؟" قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن أطعم اليوم مسكيناً؟" قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن عاد منكم مريضاً؟" قال أبو بكر: أنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمعت في امرئ إلا دخل الجنة"[3]. أما التنافس الجماعي.
فمما ورد فيه ما جاء في الصحيح أن جملة من فقراء الصحابة رضي الله عنهم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاكين حالهم، غابطين إخوانهم الأغنياء؛ لأنهم وجدوا ما ينفقونه، ويتصدقون به ويبذلون، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذهب أهل الدُّثور بالأجور –أي: أهل الأموال- يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق"[4]، همهم ومشكلتهم أن إخوانهم سبقوهم في هذا الميدان العظيم، أخزنهم لأنهم لم يجدوا ما ينفقون.
لكن هذا الدين العظيم يجعل ميادين التنافس كثيرة؛ لذلك أرشد هم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى شيء من تلك الميادين يعوض ما فقدوه، دلهم على ذكر الله تعالى؛ فيسبحونه ويحمدونه ويكبرونه، ثلاثاً وثلاثين دبر كل صلاة، ويختمون المائة بلا إله إلا الله. هكذا كان السلف رضوان الله عليهم، فهل لنا أن نتشبه بهم ونحن نعيش في رحاب هذا الشهر المبارك؟ فتشبهو إن لم تكونوا مثلهم***إن التشبه بالكرام فلاح.
أيها المسلمون:
إن أبواب الخير كثرة، ومفتوحة للراغبين، والمؤمن العاقل الحصيف هو الذي يبادر إلى الخيرات، ويقطف من ثمراتها، وبخاصة في هذا الشهر المبارك، الذي تضاعف فيه الأجور، فالله الله ما دام في الوقت مهلة، وفي العمر بقية، قبل فوات الأوان، فيقول المفرط: ليت ليت، ولكن لا تنفع شيئاً ليت. أسأل الله تعالى أن يرفع درجاتنا، ويكفر سيئاتنا، وأن يعافينا ويعفو عنّا، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى، إنه سميع مجيب، وهو المستعان.