القدس في الحضارة الإسلامية (2القدس.. أولى القبلتين وثالث الحرمين, ومسرى الرسول صلى الله عليه وسلم, هي كلمة تعني الطهارة والنزاهة والتشريف; فهي المدينة المقدسة على مر العصور, أرض النبوات, وصفها الله عز وجل هي وفلسطين في القرآن الكريم- في أكثر من موضع- بأنها الأرض المباركة والأرض المقدسة، قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:71], وقال: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء:81], وقال على لسان سيدنا موسى عليه السلام: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:21], وقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1].
هذه الأرض هي مهد النبوات ومبعث الرسل, دخلها أنبياء الله, فما من نبي إلا وقد أمها, بل اجتمعوا كلهم للصلاة في المسجد الأقصى يؤمهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذلك المسجد الذي هو صنو للمسجد الحرام في الأولية الزمانية, فعن أبي ذر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله: أي مسجد وضع أول؟ قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: ثم المسجد الأقصى. قلت: كم كان بينهما؟ قال:أربعون. ثم قال: حيثما أدركتك الصلاة فصل, والأرض لك مسجد [رواه البخاري ومسلم].وبناء على هذه المكانة نظر المسلمون إلى بيت المقدس على أنه منزل شريف، وموضع مقدس كريم, فشدوا إليه الرحال, وأحرموا منه للحج والعمرة, وزاروه لذاته بغية الصلاة والثواب, وأحاطوه برعايتهم الدينية الكريمة, لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول, والمسجد الأقصى» [رواه البخاري ومسلم].
ولم تقتصر هذه المكانة العليا للقدس على نفوس المسلمين فقط بل ظل لها أهمية ومكانة لدى الديانات الثلاث; هذه المكانة التي يمكن أن يقال عنها: إن الجمال عشرة أجزاء; اجتمعت في القدس تسعة منها, ووزع الباقي على العالم، وإن الألم عشرة أجزاء; اختصت القدس بتسعة منها, ووزع الباقي على العالم، هذه المكانة التي جعلت المصنفين يصنفون أكثر من مائة وأربعين ألف كتاب عن القدس ما بين اجتماعي واقتصادي وقانوني وتاريخي وجغرافي... إلخ, كما أسهب الكثير من الكتاب والمؤرخين في تناول تلك المدينة; بل وصل الحد ببعضهم للدرجة التي جعلتهم يسخرون كل تاريخهم الفكري حول تلك المدينة, وجعلت الكثيرين لا يبخلون بأعمارهم وأموالهم في خدمة قضيتها.كل هذا حتم علينا وعلى كل ذي بصيرة أن يولي القدس والقضية الفلسطينية من جهده وماله وعلمه ما يوفي بمكانتها; فهي تجسد الهوية الإسلامية والعربية التي يجب أن يبذل من أجلها كل ما أوتي من جهد للذود عنها; فكل جهد يبذل هو زرع للأمل بداخل النفوس القانطة, ومحاولة تذكير بأن النصر ليس ببعيد طالما توافرت آلياته; حتى تعود لنا مدينة السلام التي صارت على أيدي المحتل الغاصب مدينة للحرب ومأوى لتدمير الإنسان والبنيان.
إن العدوان الأثيم المتكرر على هذه المدينة المباركة والمحاولات الحثيثة لتغيير هويتها ووجهها العربي والإسلامي, هذا العدوان يجب ألا يشغلنا عن القضية الأساسية ويغبش عليها, هذه القضية التي هي احتلال الأرض. إن الدخول في نزاع كلامي بين المسلمين بعضهم البعض وتوزيع التهم هنا وهناك إلى حد الخروج عن اللياقة والاتهام بالعمالة إلى آخر القائمة الجاهزة أمر يتعمد العدو إثارته بين المسلمين حتى لا يتحدث أحد عن أصل المشكلة, وهي أن إسرائيل دولة محتلة, وأن أرضنا الإسلامية العربية ما زالت تحت قبضتها، وبواسطة هذه المشكلات التي يتعمد إثارتها يظل التعتيم الإعلامي ويبقى الحال على ما هو عليه.
إنه من الواجب علينا ألا ننشغل فقط بالإعانات ولا البيانات ولا التألم والشجب والاستنكار وننسى أن أصل القضية هو احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات واحتلال القدس والتغبيش عليها بكل الوسائل والسهر على الحفر حول وتحت المسجد الأقصى المراد هدمه لأسطورة غير محققة تعتمد على نوع من استغلال الدين.
على الإنسان العربي والمسلم أن يدرك ما تعانيه تلك المدينة المباركة من أوجاع وآلام يحاول المغتصب أن يشغلنا بها عن رونقها وجمالها وبركتها وقدسيتها, وهذا ما يفرض علينا العلم بأن أقل ما ينبغي على كل عربي تحصيله وفهمه والوقوف عليه أن يتعرف على أهم النقاط التي شكلت تاريخ تلك المدينة العربية التي نعتز بعروبتها وأصالتها حيال هذا المد الاستعماري متعدد الجنسيات والأديان; لعل هذا يمحو الحزن ويحيي آمال النصر والعدالة والرحمة والشجاعة والفتح العظيم.) المكانة والتاريخ
مقال لفضيلة الإمام العلامة علي جمعة بجريدة الأهرام بتاريخ 6/5/2012
تعد القدس من أقدم مدن الأرض عبر التاريخ؛ فقد هدمت وأعيد بناؤها أكثر من ثماني عشرة مرة في التاريخ، وترجع نشأتها إلي خمسة آلاف سنة قبل الميلاد؛ أسسها العرب اليبوسيون الذين نشأوا في صميم الجزيرة العربية، ونزحوا مع من نزح من العرب، وبنوا مدينة القدس وأطلقوا عليها اسم مدينة السلام.
ويعتقد المؤرخون أن أصل جميع سكان قطاع القدس يرجع إلى أصل كنعاني، وأن لغتهم الأصلية كانت الكنعانية، ومع الفتح البابلي انضمت اللغة الفارسية إليها كلغة رسمية، وكان الكنعانيون في بادئ الأمر رعاة، ولما استقربهم الأمر في فلسطين سميت باسمهم كنعان، وقد أجمع المؤرخون على أن أول آثار عرفت في فلسطين كانت لهم؛ حيث كانوا أول ساكني فلسطين بعد نزوحهم من شبه الجزيرة العربية.
ولا شك في أن القدس إسلامية الأصل؛ فقد أرسل الله عز وجل جميع الأنبياء بدين واحد وهو الإسلام، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران:19]؛ فالإسلام هو الدين الأول؛ فإنه لما أرسل الله عز وجل نوحا عليه السلام أرسله بالإسلام دينا خالصا، قال سبحانه على لسان نوح: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72]، وقال أيضا: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]، وعن لوط عليه السلام قال: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:36].
والمسجد الأقصى هو أقدم المساجد التي عمرت لعبادة الله وحده بعد المسجد الحرام؛ ولذا كثر تردد الأنبياء جميعا عليه وصلاتهم فيه؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: بيت المقدس بنته الأنبياء وعمرته، وما فيه موضع شبر إلا وقد سجد عليه نبي أو قام عليه ملك، (الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل 1/239).
وعند الحديث عن بناء المسجد الأقصى نجد أن هذه المسألة شغلت العلماء والمؤرخين المسلمين كثيرا؛ حيث اختلف فيمن أقام بناءه الأول: فالرأي الأول: أن آدم عليه السلام هو الذي أسس كلا المسجدين، ذكر ذلك العلامة ابن الجوزي، ومال إلى ترجيح هذا الرأي الحافظ ابن حجر في الفتح، واستدل له بما ذكره ابن هشام في كتاب التيجان أن آدم لما بنى الكعبة أمره الله بالسير إلى بيت المقدس، وأن يبنيه فبناه ونسك فيه، وهذا القول أثبت -كما قال الحافظ في الفتح- وعليه فإن الذي أسس المسجد الأقصى هو آدم نفسه أو أحد أبنائه؛ لأن المدة الفاصلة بين المسجدين أربعون سنة فقط.، (فتح الباري 6/409).
الثاني: أن الخليل إبراهيم عليه السلام هو الذي أسس المسجد؛ لأن بناءه للمسجد الحرام مشهور بنص القرآن، وإذا ثبت بالنص أنه بنى الكعبة، فإن بناءه للمسجد الأقصى محتمل راجح لقرب العهد بين المسجدين، وممن نصر هذا القول الشيخ ابن تيمية حيث قال: والمسجد الأقصى صلت فيه الأنبياء من عهد الخليل (مجموع الفتاوى 27/258)، وفي موضع آخر قال: فالمسجد الأقصى كان من عهد إبراهيم عليه السلام (مجموع الفتاوى 27/251).
وقد أكد أحد الباحثين المتخصصين في الهندسة على وجود تشابه هندسي تام بين بناء الكعبة المشرفة وبناء المسجد الأقصى المبارك، وباستخدام برامج هندسية ثلاثية الأبعاد وبإهمال المساحتين المختلفتين للكعبة والمسجد الأقصى وضح الباحث بالخرائط والصور تطابقا تاما في زوايا البناءين الأربع؛ مما يدعم بمزيد من الأدلة العلمية فرضية بناء آدم عليه السلام للمسجدين، وتحديد حدودهما بوحي من الله عز وجل، وهي الحدود التي مازال المسجد الأقصى يحتفظ بها حتى يومنا هذا. (مجلة دراسات بيت المقدس، عدد عام2000 م).
وحيث إن أصل رسالة كل نبي هو الإسلام، فاللازم لذلك أن المسجد الأقصى إسلامي النشأة؛ والأنبياء أبناء علات دينهم واحد وقد تختلف شرائعهم، ولا يكتمل إيمان أحد إلا إذا آمن بجميع رسل الله وكتبه، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285].
وقد عزز إسلامية القدس أنها كانت القبلة الأولى للمسلمين؛ فقد استمر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه نحو ستة عشر شهرا يتجهون إلى بيت القدس في صلاتهم؛ حتي جاء الأمر بتحويلها إلى بيت الحرام بقوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144]، ونقل القبلة من المسجد الأقصى إلى الكعبة لم يغير مكانة القدس بين المقدسات الإسلامية إذا ظلت كما هى أولى القبلتين وثالث الحرمين. بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، وفي مسجدي هذا بألف صلاة، وفي بيت القدس بخمسمائة صلاة»، (مجمع الزوائد 4/7).