جندي حصيف في أمة عظيمة
هذا دينى وأسلامى ...لمن يخاف شرع الله أنظر وأحكم
دعوة للتفقد
حملني ما قام به سليمان عليه السلام من تفقده للطير، أن أتفقد معه وألتمس خطي الهدهد تحديدا عسي أن أتمثل به وأسعى سعيه.
"وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ"
وَالتَفَقَّدَ: هو طلب ما غاب عنك من شيء.
والطَّيْرَ: اسم جامع والواحد طائر، والمراد جنس الطير وجماعتها، حيث كانت تصحبه في سفره وتظله بأجنحتها، فأراد عليه السلام معرفة الموجود منها من غيره.
وهنا يأتي سؤال لعبدا لله بن سلام من ابن عباس:
لم تفقد سليمان الهدهد دون سائر الطير؟!!
فأجاب ابن سلام قائلا:
"لقد احتاج سليمان عليه السلام إلي الماء ولم يعرف عمقه، وكان الهدهد دليله في هذا الأمر دون سائر الطير فتفقده".
قال الكلبي:
"لم يكن في مسيره إلا هدهد واحد".
كلكم راع
بالرغم من صغر حجم الهدهد وضعفه لم يخف علي سليمان حاله، بل وسأل عنه حين لم يره وسط رعيته في حال تقتضي أن يراه فيها، وهذا منشؤه سعي الإمام لتفقد أحوال رعيته، والمحافظة عليهم، فمهمة كل راع أن يجمع لأفراده عافية الدنيا والدين.
والمتتبع لسيرة الحبيب (صلى الله عليه وسلم) يجد أنه كان يتفقد أحوال أصحابه، فيسأل عمن يغيب منهم، ويعود مريضهم، ويواسي محتاجهم، ويكفل يتيمهم، ويتابعهم بالتوجيه والنصح، ويستقبل من عاد من سفره، ويسأله عن حاله، وعن مدى علم أهله بعودته في هذا الوقت، وغير ذلك مما يدل علي مدي شفقته (صلى الله عليه وسلم) - بأبي هو وأمي- بأمته، وسعيه فيما يصلحها ويصلح أفرادها.
ولقد سار أصحابه من بعده علي هديه.
فهاهو أبو بكر بينما يتفقد أحوال رعيته، وجد امرأة عجوز لا أنيس لها ولا جليس فقام هو علي خدمتها، فكان يكنس لها بيتها ويعد لها طعامها.
وكان عمر يتفقد أحوال رعيته، وأحوال العاملين في الدولة بنفسه، فكان يتفقد الأسواق، وقدم النصح لأصحاب السلع، وكان يقول: "لو أن بغلة في العراق عثرت لسأل عنها عمر".
وآلمني وآلم كل حر سؤال الدهر أين المسئولون
سواء كان آباء أو أمهات أو مربين، أين متابعتهم، أين نصحهم، أين توجيهاتهم، أين مراقبتهم ؟
"مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ"
درس عظيم من سليمان عليه السلام لكل مرب، لا تلق دائما بالتقصير علي أتباعك
فقد جعل سليمان عدم رؤية الهدهد لسبب عنده، فقال مالي لا أرى الهدهد.. ولم يقل ما للهدهد لا أراه، وذلك مبني علي أنه ظن حضوره، ومنع مانع له من رؤيته.
فعدم رؤيتي إياه مع حضوره لأي سبب؟!!
ألساتر أم لغيره؟!!
ثم لاح له أنه غائب، فقال:
"أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ"
و"أَمْ" هنا بمعني بل، أي: بل كان من الغائبين.
ولما لم يره توعده بالعقوبة إذ لم يأت بعذر مقبول.
"لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ"
وذلك يدل علي كمال سياسته وعدله في أمته، فلم يجزم عليه السلام بالعقوبة بل استثني، وترك الحجة للغائب حتى يعود، فإن كان الغياب لمصلحة كان ذلك سلطانا مبينا ً، وهو كاف للعفو عنه، وإلا فالعقوبة.
وهذا هو الحزم في الأمور وأن يملك المرء نفسه في موضع الغيظ، وأن يترك الفرصة لسماع وجهة النظر والوقوف علي الأسباب، والسعي لمعرفة الحقيقة من مظانها الصحيحة.
عودة الهدهد "فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ"
أي: غاب زمانا غير مديد، وهذا يدل علي سرعة رجوعه.
وقيل أقام غير بعيد من سليمان عليه السلام.. ثم جاء في اعتذاره:
"أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ"
وفي هذا براعة استهلال، وما يلفت السامع إلي الإصغاء للاعتذار، مع استمالة القلب نحو قبوله، لأن النفس للاعتذار المنبئ عن أمر بديع أقبل، وإلي تلقي مالا تعلمه أميل.. وأيد ذلك بقوله :
"وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ"
وفي الكلام إيحاء بأنه كان يقوم بمهمة لسليمان عليه السلام، وفيه ما يشوق لمعرفة تفصيل هذا النبأ الصادق، واستطاع الهدهد بصدقه أن يدفع عن نفس سليمان ما توعده به من العذاب.
النبأ اليقين
"إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً"
إن المرأة هي بلقيس وحكمت اليمن بعد أربعين ملكا من آبائها، وكانت دولتها قوية، ولها جيش عظيم الإعداد، وتوافر لدولتها ما تحتاج إليه من أسباب القوة والمنعة والكفاية.
وقد جاء وصف مملكتها علي لسان هدهد سليمان بعبارات فيها إيجاز وإعجاز، تناولت الظواهر والبواطن، وما يدل علي قوة الدولة وعلي معتقدات أهلها وتوجهاتهم.
الغضب لله
لما وصف الهدهد ما كانت عليه بلقيس من الملك القوي والعرش العظيم والمال الوفير لم ينتبه سليمان عليه السلام لشيء من هذا.. ولكن لما قال:
"وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ"
غضب سليمان في الله غضبة شديدة وقال:
"سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ"
وتثبت سليمان من صدق الهدهد وأمانته في نقل الخبر.. ففي الجانب المادي رأي أمة قوية توافرت لها أسباب الكفاية والمنعة، وفي الجانب الروحي فهناك اعوجاج وبعد عن دين الفطرة، بسبب تزيين الشيطان لهم فصهم عن السبيل فهم لا يهتدون.
الهدهد يدعو إلي التوحيد
لقد استبشع الهدهد عقيدة الزنادقة الملحدين، ولسان حاله يقول:
فيا عجبا: كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد ؟
وفي كل شيء له آية تدل علي أنه الواحد
واستنكر أن يعيش العبد علي أرض الله ويأكل من رزق الله ويستظل بسماء الله ثم بعد ذلك يعبد غير الله
فالله أحق أن يطاع فلا يعصي وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر، ولم لا، وهو الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون، فليسجدوا له ويوحدوه ويعظموه ويمجدوه.
"أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ"
إن الهدهد بحسن صنيعه هذا وضع هممنا جميعا في قفص الاتهام ،وذكرنا جميعا بأن العمل لهذا الدين مسئولية الجميع، ذكرنا جميعا بقول ابن القيم رحمه الله:
"وأي خير وأي دين فيمن يرى محارم الله تنتهك وسنة نبيه يرغب عنها ودينه يضيع وهو بارد القلب ساكت اللسان، فهؤلاء مع سقوطهم من عين الله قد بلوا بأعظم بلية، ألا وهي موت القلب".
حقا ً.. لقد كان الهدهد إيجابيا.. صادقا.. أمينا.. استحق بذلك أن يكون سفيرا لسليمان عليه السلام ، وداعيا إلي الله الكبير المتعال.
فما أحرانا أن نتحلى بهذه الصفات حتى نوفق فى الدعوة الى الله